
طهران | منذ نهاية أيلول الماضي ومطلع تشرين الأول الجاري، اتّخذ حديث التصعيد الإقليمي الذي كان يدور سابقاً في غرف التحليل طابعاً أكثر جدّية، متمحوراً حول سؤال رئيسي مفاده: هل تقف إسرائيل والولايات المتحدة، مرّة جديدة، على عتبة حرب مع إيران؟ لا تنحصر مؤشرات التصعيد هذه المرّة في لغة التهديد فحسب، بل تتعدّاها إلى التحرّكات الديبلوماسية والتعزيزات العسكرية، التي يمكن عدّها علامات تحذيرية.
إذ بالتزامن مع عودة العقوبات الأممية على طهران، في ضوء تفعيل «آلية الزناد» في الـ28 من أيلول، أسهم نشر طائرات التزوّد بالوقود الأميركية في الخليج، وإعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن خطّته في شأن غزة، في دفع مراقبين إقليميين إلى تلمّس «بوادر أزمة جديدة».
وعلى مدى الأسبوعَين الماضيَين، أظهرت صور الأقمار الاصطناعية، ومعطيات التتبّع الجوّي، أن طائرات أميركية عدّة للتزوّد بالوقود، من طرازَي «KC-135» و«KC-10»، انتقلت من قواعد أوروبية إلى قطر والبحرين، توازياً مع تزايد رحلات الرصد والاستطلاع فوق الخليج والبحر الأحمر، وهو ما قد يُقرأ، في الأدبيات العسكرية، على أنه مدخل إلى عمليات أكبر. وفيما أعلنت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، وقتذاك، أنها «نشرت تجهيزات دفاعية جديدة لدعم الحلفاء الإقليميين»، نفّذت إسرائيل، في الأيام القليلة الماضية، مناورة مشتركة للدفاع الجوّي مع كلّ من اليونان وقبرص، اشتمل قسم مهمّ منها على محاكاة الدفاع أمام الصواريخ الباليستية البعيدة المدى.
وفي طهران، اعتبرت الصحف القريبة من الحكومة، أن «التحرّكات الأميركية هي في معظمها ذات طابع ردعي»، في حين حذّرت الصحف الأكثر تشدّداً، من مثل «كيهان»، من أن «العدو يريد اختبار إرادة إيران».
وكانت قد زادت عودة العقوبات الأممية على إيران المشهد تعقيداً؛ إذ إن هذا الإجراء الذي بادرت إليه الدول الأوروبية بالتنسيق مع الأميركيين، والذي بدا في الظاهر محاولة لدفع طهران إلى التعاون مع «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، هَدَفَ، وفق عدد من المحلّلين الإيرانيين، إلى ممارسة الضغط على بلادهم لدفعها إلى تغيير سلوكها الإقليمي، والتمهيد لمواجهة أشمل معها، باعتبار أن الضغط الاقتصادي سيضع إيران في موقع دفاعي، وسيُدخلها تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يمكن أن يضفي - ظاهراً - شرعيّة على أيّ عمل عسكري جديد ضدّها.
كذلك، إن طرح ترامب خطّته في شأن غزة، لا يهدف - من وجهة نظر المراقبين الإيرانيين - إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة وتنظيم الأوضاع فيه فحسب، بل يرمي أيضاً إلى إعادة ترتيب توازن القوى في أرجاء المنطقة. بتعبير آخر، تسود في طهران رؤية مفادها: أن الهدوء في غزة سيتيح لإسرائيل إمكانية أن تتفرّغ براحة لاستكمال أهدافها في المواجهة مع إيران.
الحرب التي تنتهي من دون فائز، يتقلّص عادة الدافع إلى تكرارها
ورغم المؤشّرات الظاهرة التي تدعم هكذا افتراض، فإن ثمة في المقابل أسباباً للاعتقاد بإمكانية احتواء الأزمة، على رأسها ما يلي:
- أولاً، أن الكلفة الإنسانية والاقتصادية لأيّ حرب مباشرة ستكون باهظة جداً؛ وهو ما لا يلائم إسرائيل التي تعيش أزمة سياسية داخلية، ولا أميركا التي تقف على عتبة انتخابات، ولا حتى إيران التي تخشى، في ظلّ الضغوط الاقتصادية عليها إلى جانب التوجّس المجتمعيّ، من أن يؤدي أي اشتباك واسع النطاق إلى زعزعة استقرارها الداخلي.
- ثانياً، أن اللاعبين الآخرين - بدءاً من روسيا والصين وصولاً إلى الدول الخليجية -، يخشون توسيع نطاق الحرب؛ ذلك أن أيّاً منهم لا يريد تعريض سوق الطاقة أو مسارات الملاحة البحرية في الخليج والبحر الأحمر للخطر ثانية.
- ثالثاً، أن تجربة حزيران أظهرت أن أيّاً من الأطراف لم يمتلك الباع الأطول في الهجوم أو الدفاع؛ والحرب التي تنتهي من دون فائز، يتقلّص عادةً الدافع إلى تكرارها.
مع ذلك، يظلّ الخطر الأكبر كامناً في سوء التقدير؛ ففي الوقت الذي يتصرّف فيه الطرفان في ظلّ ثقة معدومة، فإن هجوماً صاروخيّاً خاطئاً، أو إطلاق نار من جانب أيّ طرف ثالث، يمكن أن يؤدّي إلى بدء سلسلة من ردود الفعل، قد تخرج تالياً عن إرادة اللاعبين الرئيسيين، في ما يُطلق عليه الخبراء العسكريون «حافة الردع»، أي حينما تكون القوّة رادعة وتتحوّل في الوقت ذاته إلى شرارة حرب. وهكذا، ورغم أن مصلحة أيٍّ من اللاعبين لا تكمن في بدء حرب جديدة، تقف المنطقة أمام مخاطر هائلة؛ إذ فيما يوحي استقدام طائرات التزوّد بالوقود وعودة العقوبات، بتجهيز ساحة القتال، فإنه كلّما ازداد الضغط الاقتصادي على إيران، واستمرّ التعقيد في غزة ولبنان، فإن احتمال الانزلاق من «الردع» إلى «الاشتباك» يتعاظم.
وكانت قد سعت طهران، في الأسابيع الأخيرة، عبر التحذيرات الكلامية واستعراض القوّة العسكرية، إلى إظهار كلفة أيّ إجراء محتمل، في حين أرسلت واشنطن، من طريق تشكيلتها القتالية، رسالة مزدوجة، عنوانها أن الاستعداد هو للهجوم، ولكن الأفضلية تظلّ للردع. أمّا إسرائيل، فتقف بين هذا الحدّ وذاك، ممثِّلةً اللاعب الذي لا يمكن التنبّؤ بتصرفاته. ومن هنا، ربّما تكون المنطقة على أبواب فصل جديد من التصعيد، خصوصاً أن الحدود بين استعراض القوّة ونشوب الحرب باتت أضيق مما كانت عليه في أيّ وقت مضى، وأن أيّ حركة خاطئة يمكن أن تؤدّي إلى استبدال التوازن الهشّ الحالي، بحرب قد لا تشبه بالمرّة حرب الـ12 يوماً.